في تفسير الشعراوي {{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) }}
ونعلم أن الحق حينما يتكلم ، يأتي بضمير التكلم . وضمير التكلم له ثلاثة أوجه ، فهو يقول مرة : « إنا » ومرة ثانية : « إنني » وثالثة يخاطب خلقه بقوله : « نحن » . وهنا يقول : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ } . ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق : { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ } [ طه : 14 ]
وفي موضع ثالث يقول : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
لأن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاتف لتنزيل الذكر وحفظه . وحين يخاطب الله خلقه يخاطبهم بما يُجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه . والكون الذي نعيش فيه يمتلئ بالكائنات التي تخدم الإنسان ، وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للإنسان الكون قبل أن يوجد الإنسان ، وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم الله له؛ فالإنسان هو الذي طرأ على كون الله .
هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لإعداده ، احتاج إلى علم عن الأشياء ، وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه ، ولقدرة تبرزه ، وإلى غنى بخزائنه حتى يفيض على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الآخر ، وساعة يكون العمل مُتطلباً لمجالات صفات متعددة من صفات الحق ، يقول سبحانه : « إنَّ » أو « نحن » . وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق سبحانه وتعالى يقول : « إني أنا الله » . ولا تأتي في هذه الحالة « إنَّا » ولا تأتي « نحن » .
والحق هنا يقول : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } أي أنه أوحى بمنهج ليصير الإنسان سيداً في الكون ، يصون نفسه والكون معاً ، وصيانة الكائن والكون تقتضي علماً وحكمة وقدرة ورحمة؛ لذلك فالوحي يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون . ورحمة من الله بخلقه أن جعل لهم مدخلاً فيقول على سبيل المثال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } [ فاطر : 27 ]
هو الذي أنزل من السماء ماء ، وليس لأحد من خلقه أي دخل في هذا؛ لأن الماء إنما يتبخر دون أن يدري الإنسان ، ولم يعرف ذلك إلا منذ قرون قليلة . وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار ، ثم ينزل المطر من بعد ذلك . إذن لا دخل للإنسان بهذا الأمر؛ لذلك يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } . ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق ، فيقول : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } . ولم يقل : « فأخرجت » . بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول التي خلقها لهم ، فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر ورى وذلك حتى يخرج الثمر .
إذن الأسلوب القرآني حين يأتي ب « إني » يشير إلى وحدة الذات ، وحين يأتي ب « إنَّا » يشير إلى تجمع صفات الكمال؛ لأن كل فعل من أفعال الله يقتضي حشداً من الصفات علماً وإرادة وقدرة وحكمة وقبضاً وبسطاً وإعزازاً وإذلالاً وقهاريةً ورحمانيةً؛ لذلك لا بد من ضمير التعظيم الذي يقول فيه النحويون : إن « نحن » و « ن » للمعظم نفسه .وقد عظم الحق نفسه؛ لأن الأمر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون . ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلال الله في ذاته وجماله في صفاته يقولون :
فسبحان رب فوق كل مظنة ... تعالى جلالاً أن يُحاط بذاته
إذا قال « إني » ذاك وحدة قدسه ... وإن قال « إنَّا » ذاك حشد صفاته
وعندما ننظر إلى هذه المسألة ، نجد أن الحق سبحانه وتعالى أنصف خلقه لعلهم يعرفونه ، فجعل لهم إيجاد أشياء وخلق أشياء . وحين يتعرض سبحانه لأمر يكون له فيه فعل ويكون لمن أقدره سبحانه من خلقه فيه فعل ، فهو يأتي بنون التعظيم لأنه - سبحانه - هو الذي أمدهم بهذه القدرات .
وحين أوجد الحق خلقه من عدم ، جعل لخلق من خلقه إيجاداً؛ ولكنْ هناك فرق بين إيجاد المادة ، وإيجاد ما يتركب من المادة . فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم ، ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا أشياء لكن ليست من عدم . وما ضَنَّ سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ]
فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين ، لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض ، وإنما كوَّنوا مركّباً من موجود في مواده . فأخذوا من مواد خلقها الله فركّبوا وأوجدوا ............
منقووووووووووووووول