يذكر النقاد القدامى ، أن الشعر لم يتصل في ولد أحد من فحول الجاهلية اتصاله في ولد زهير بن أبي سلمى ..
ذلك لأنه ورث الشعر من طرفي أبيه و أمه ...
فقد عاش مع والده في ديار " غطفان " بعد أن رحل عن " مزينة " و أقام في الحاجر من ديار نجد...
و عاش بالقرب من أبيه زهير بن سلمى ، و كان شديد الإعجاب بشعره ، راغبا بأن يكون في الشعر مثل أبيه..
لكن أباه كان ينهاه و يعذبه مخافة أن يقول ما لا خير فيه ، و ما يمكن أن يعير به ...
و قد تكرر ضرب الأب لابنه ، بل و الحبس له في بعض الأحيان ..
و لكي يبعده عن مجلسه طلب منه أن يرعى الإبل ..
و قد استجاب الابن لما أراد الأب ..
و ذات يوم سمعه الأب يرتجز
كأنما أحدو ببهمي عيرا
من القرى موقرة شعيرا
فما كان من الأب إلا أن عزم على إدخاله امتحانا خاصا بالشعر ليعرف مقدار ما عنده ..
و كان قد دخل بيته مغضبا ثم دعا بناقته و غطاها بثيابه ثم ركبها و سار بها حتى انتهى إلى ابنه..
و حين رآه أخذ بيده و أجلسه وراءه ، ثم سارا بالناقة حتى ابتعدا عنالحي ثم قال مرتجلا :
إني لتعدوني عن الهم جسرة
تخال بوصّال حروم و تَعْنقُ
ثم ضرب كعبا و هو يقول : اجز يالكع ، و يجز كعب باقتدار..
و يكرر الأب بيتا من عنده كما يكرر ضرب الابن ، و مقولته : اجز يالكع..
و ينجح الابن في هذا الامتحان المباغت ..
و لما كان موضوع الامتحان خالصا بالناقة..
فإن الأب يغير الموضوع إلى نعت النعام..
و ينجح الابن وهنت لا يملك الأب - و قد داخله الفرح - إلا أن يأخذ بيده ثم يقول له :
قد أذنت لك يا بني ف ي الشعر ثم نراه يقربه من مجلسه ..
حتى صار هو والحطيئة من أنبغ تلامذة هذه المدرسة الزهيرية..
و على الرغم من هذاا لنبوغ إلا أنه كان يحلو له أن يضعه في أكثر من امتحان...
يروى أن زهيرا قال بيتا من عنده ، ثم عجز عن قوله ثانية و حين مرّ به النابغة الذبياني قال له :
يا أبا أمامة أجز..
قال : ماذا ؟
قال زهير
و تحيا ما حييت بها ثقيلا
تراك الأرض إما مت خفا
نزلت بمستقر العز منها
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
و قد عجز النابغة عن الإكمال و بينما هما في هذا الموقف الصعب...
أقبل كعب فقال زهير ما سبق أن قاله للنابغة فما كان من كعب إلا أن أكمل الشعر المطلوب وهو :
نزلت بمستقر العز منها
فتمنع جانبيها أن يزولا
و هنا يفرح الأب و يقول للابن بسعادة غامرة : " أنت والله ابني " و يحضه على تعلم القراءة و الكتابة ....
و ذات يوم سمع أباه و هو يقص رؤيا ، تدور حول أن أتيًا أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده ...
ثم تُرك فهوى على الأرض ثم قال : إني لاشك كائن من خبر السماء من بعدي ، فإن كان فتمسكوا به و سارعوا إليه..
و يجيء الإسلام و يصبح أحاديث كل الناس..
و في يوم نراه و أخاه ( بجيرا ) يسيران إلى المرعى و يكون حديثه عن هذا الرسول الذي ظهر...
و يتحاوران ثم يصلان إلى حل يقول فيه كعب لبجير : الحق الرجل و أنا مقيم هاهنا فانظر ما يقول لك ...
و يفترقان عند مرعى " أبرق العزاق " و يذهب بجير و ينسيه المناخ الجديد في المدينة حديثه مع أخيه ..
فقد أعلن إسلامه و لم تخطر العودة له على بال ..
و يقلق كعب لغياب أخيه ، و حين يسمع أن أخاه أسلم ...
يكتب شعرا يهجو فيه الرسول و الرسالة وأخاه و قبيلة مزينة ...
حين شاع فيها الإسلام و يحفظلن االتاريخ من هذا الهجاء قوله :
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
فهل لك فيما قلت ويحك؟ هل لك
سقاك أبو بكر بكأس روية
فانهلك المأمون منها و علك
ففارقت أسباب الهدى و تبعته
على أي شيء... ويب غيرك دلك
على مذهب لم تلف أمًا ، و لا أبًا
عليه ، و لم تعرف عليه أخا لك
فأين أنت فلست بأسف
و لا قائل إما عثرت لعًا لك
ثم أنه شبّ بأم هانئ ، ابنة أبي طالب على حد ما يذكره ابن الأثير...
و يذكر المؤرخون أن هذه الأبيات حين وصلت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أهدر دمه و قال :
من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله ، فاستطير و لفظته الأرض على حد تعبير ابن إسلام الحجري
و الواضح أن هناك أبياتا أهملها الرواة لأنها كانت تمس الرسول و الرسالة ..
فليست هذه الأبيات مما يوجب إهدار الدم ...
على أن الدكتور ( طه حسين ) في حديث الأربعاء يرى أنه كانت هناك مؤامرة على قتل الرسول صلى الله عليه و سلم بين الأخوين ، و مما يدل على هذا البيت الأخير الذي يتحدث عن ( فعل ) شيء كانا اتفقا عليه و هو القتل فالبيت يقول :
فأين أنت فلست بأسف
و لا قائل إما عثرت لعًا لك ..
كتب بجير إلى كعب يقول له : النجاة النجاة ثم كتب له شعرا يقول :
من مبلغ كعبا ، فهل لك في التي
تلوم عليها باطلا و هي أحزم
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده
فتنجو إذا كان النجاة و تسلم
لدي يوم لا ينجو و ليس بمفلت
من النار إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير ،و هو لاشيء دينه
و دين أبي سلمى ... عليّ محرم !
و قد ظل بجير على صلة بأخيه ، و كان يحثه على القدوم إلى المدينة...
و يذكره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لابد أن يعفو عنه...
و يرى كعبا أنه لا مناص من ذهابه إلى المدينة و يذهب و ينيخ – راحلته بباب المسجد...
و كان مجلس الرسول من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقة ثم حلقة ثم حلقة...
و هو وسطهم فيقبل على هؤلاء يحدثهم ، ثم على هؤلاء ثم على هؤلاء ...
فأقبل كعب حتى دخل المسجد فتخطى حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ...
وقال : يا رسول الله الأمان ، قال الرسول : و من أنت ؟ قال : كعب بن زهير...
قال الذي يقول كيف ، قال يا أبا بكر فأنشد أبو بكر ما قال ...
فوثب عليه إنصاري و هو يقول : يا رسول الله دعني و عدو الله أضرب عنقه ...
فيقول الرسول : دعه عنك فإنه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه ...
ثم يستأذن الرسول في إنشاد قصيدته الشهيرة التي أولها
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها ، لم يفد مكبول
و قد كان ا لرسول يشير إلى الحلقات التي في المسجد أن يسمعوا شعر كعب...
و اقترح عليه تعبير بعض الكلمات و لما كان لم ينس أن المهاجرين رحبوا به ...
و أن أنصاريا حاول أن يقتله في حضرة الرسول فإنه عرّض بالأنصار في القصيدة ...
فلما سمع المهاجرون هذا قالوا : ما مدحنا من هجا الأنصار ؟ و عوتب في ذلك فقال :
من سرّه كرم الحياة فلا يزل
في منقب من صالح الأنصار
الباذلين نفوسهم لنبيهم
عند الهياج و سطوة الجبار
و الناظرين بأعين محمرة
كالجمر غير كليلة الأبصار
و الضاربين الناس عن أديانهم
بالمشرفي و القنا الخطار
يتطهرون يرونه نسكالهم
بدماء من علقوا من الكفار
المهم أن الرسول عليه الصلاة و السلام كساه بردته التي كانت عليه ...
و الأحاديث متواترة عن البردة فيقال :
- أن معاوية أرسل إليه بعنا بردة رسول الله ن فقال : ما كنت لأوثر يثوب رسول الله أحدا ...
فلما مات كعب اشتراه معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم ...
- و قيل إنها بيعت في أيام المنصور و بقيت في خزائن ابن العباس ...
- و قيل أنها أحرقت فيما أحرق أثناء الغزو المغولي للعباسيين ..
المهم أن كعبا مع فقره لم يفرط في البردة ، و ذاع صيته بعد إسلامه ..
وو يقال أنه قال شعرا في يوم فتح مكة ، و في غزوة حنين ، و الطائف و في غزوة أحد قال :
و رحنا غانمين بما أردنا
و راحوا نادمين على الخلاف
و أعطينا رسول الله منا
مواثيق على حسن التصافي
فجزنا بطن مكة و أمتعنا
بتقوى الله و البيض الخفاف
و حل عمودنا حجرات نجد
فالية فالقدوس إلى شراف
أرادوا اللات و العزى إلها
كفى بالله دون اللات كاف
و قد كان مقدرا من كبار الشعراء في عصره ، فها هو الحطيئة يقول له : قد علمت روايتي لكم أهل البيت ..
و انقطاعي إليكم ، و قد ذهب الفحول غيرة و غَيْرَة ..
فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك و تضعني موضعا بعدك..
فإن الناس لأشعاركم أروى ، و إليها أسرع فقال كعب :
فمن للقوافي شأنها يحول
إذا ما ثوى كعب و فوز جرول
كفيتك لا تلقى من الناس واحدا
تنخل منها مثل ما انتخل
يثقفها حتى تلين متونها
فيقصر عنها كل ما يتمثل
و التاريخ يصمت عن مشاركاته في الحياة الإسلامية ..
فلا نعرف له احتكاما بأبي بكر ، و عمر و عثمان ، و لكن كانت له وقفة طويلة في مدح علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ...
فقد قال قصيدة طويلة كانت بنو أمية تنهي عن روايتها و أضافتها إلى شعره و هي القصيدة التي منها :
إن عليا لميمون نقيبته
يالصالحات من الأفعال مشهور
صهر النبي ، و خير الناس مفتخرا
فكل من رامه بالفخر مفخور
مقاوم لطغاة الشرك يضربهم
جتى استقاموا و دين الله منصور
يا خير من حملت نعلا له قدم
بعد النبي لديه البغى مهجور
أعطاك ربك فضلا لا زوال له
من أين أنى له الأيام تغيير
بالعدل قمت أمينا حين خالفه
أهل الهوى و ذووا الأهواء و الزور
و يبدو أن انعزاله هذا و بعده عن المشاركة في الحياة ..
و إحساس البعض بأنه كان بدويا فظا غليظ القلب نافر الطباع يثور و ينتفض لأدنى ملاحظة ...
ربما لا يكون له أساس ، كان وراء فقره و ضعف رزقه و هذا جعله في شجار دائم مع زوجه...
فله في الضيق ثلاث قصائد منها قوله :
إن عرس قد أذنتني أخيرا
لم تعرج ، و لم تؤمر أميرا
أجهارا جاهرت لأعتب فيه
أم أرادت خيانة و فجورا
ما صلاح الزوجين عاشا جميعا
بعد أن يصرم الكبير الكبيرا
فاصيري مثل ما صبرت فإني
لا أخال الكريم إلا صبورا
أي حين و قد ديبت و دبت
و لبسنا من بعد دهر دهورا
ما أرانا نقول إلارجيعا
و معادا من قولنا مكرورا
عذلتني فقلت : لا تعذليني
قد أغادي المعذل المخمورا
و قد أورد رأي ابنته فيه و كيف أنه كان قاعدا عن رزقه
تقول ابنتي: إلهي أبي حب أرضه
و أعجبه إلف لها و لزومها
بل إلهي أباها أنه من عصابة
برهمان أمسى لايعاد سقيمها
تساقوا بماء من بلاد كأنه
دماء الأفاعي لا يبل سليمها
مجاجات حيات إذا شربوا بها
سما فيهم سوارها و هميمها
فالذي بقى له و التي جعلته في دائرة الضوء في كل العصور قصيدته التي مطلعها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها ، لم يفد مكبول
و ما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
فما أكثر ما دار الحديث عنها شحا و تخميسا و تشطيرا ، و معارضة كما أنها ترجمت إلى عدد من اللغات كالإيطالية ...
و قد اهتم بها المستشرقون الذين يأتي في مقدمتهم : رينيه باسيه الذي عرّف بكعب ، و نشر شرح ثعلب إلى الفرنسية ...
كما قدّمه آخرون بشرح التبريزي في مجلة جمعية المستشرقين الألمان ، كما اهتم بالنص من القدامى:
ابن الأنباري تحقيق د. محمود حسن الزيتي
و عبد اللطيف البغدادي بتحقيق هلال ناجي
و القصيدة لا تبدو عند البغدادي مستوية الأجزاء فقد أوجز في ذكر " سعاد " و أطال في ذكر" الناقة "
أما الدكتور طه حسين فيقول : و أنا حين أقرأ قصيدة كعب أراها تأتلف من ثلاثة أجزاء متباينة في ظاهر الأمر ...
و لكنها مؤتلفة أحسن الائتلاف في حقيقة الأمر ، لولا إني أرجح أن جزءا منها قد كثر فيه عبث الرواة...
و لا ننسى أنه حين عقد مقارنة بينه و بين أبيه قال ببراعة اللاحق على السابق ..
فكعب حين يقول :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
و زهير حين يقول :
إن الخليط أجد البين فانفرقا
و علق القلب من أسماء ما علقا
و فارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
فالمعنى الذي قصد إليه كعب هو نفس المعنى الذي قصد به زهير...
و لكن كعباً قد أوجز حين أطنب أبوه ، و آثر قافية أيسر و أحلى موقعا من أبيه ..
و إن كان ابن إسلام الحجمي قد جعله من الطبقة الثانية في طبقاته...
فإن خلف الأحمر يقول :
لولا قصائد لزهير ما فضلته على ابنه كعب ..
و يقول عنه ابن قتيبة :
كان فحلا مجيدا ..
و ما أروع وقفة عبد القادر الجرجاني عند أبياته التي تقول :
فلما قضينا من منى كل حاجة
و مسح ركن البيت من هو ماسح
و شدت على حدب المهاري رحالها
و لا ينظر الغادي الذي هو رائح
فقلنا على الهوج المراسيل ، وارتمت
بين الصحارى و الصماد الصحاصح
نزعنا بأطراف الأحاديث بيننا
و مالت بأعناق المطي الأباطح
أما المحدثون فقد جعلوه أحد أفراد المذهب التصويري المادي..
الذي بدأ بأوس بن حجر زوج أم زهير وبلغ أوجه مع زهير والنابغة ..
و كان من ممثلي هذا التيار كعب و الحطيئة..
أما بروكلمان فيرى أن قصيدةبانت سعاد من أشهر شعر العرب و أنها ألبست الشاعر حلة مجد لا يبلى ...
على أنه هو نفسه يضع نفسه في مدرسة أبيه في أكثر من موضع على حد قوله مثلا :
فإن تسأل الأقوام عني فإنني
أنا ابن أبي سلمى على رغم من رغم
أقول شبيهات بما قال عالما
بهن و من يشبه أباه فما ظلم
و أشبهته من بين من وطئ الحصى
و لم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم
أنا ابن الذي قد عاش تسعين حجة
فلم يخز يوما في معد و لم يلم
و أكرمه الأكفاء في كل معشر
كرام ، فإن كذبتني فاسأل الأمم
أتىالعجم و الأفاق منه قصائد
بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم
أنا ابن الذي لم يخز في حياته
و لم أخزه حتى تغيب في الرجم
و أخيرا فقد صفت نفسه و تغيرت طباعه بعد الإسلام فحين يهجي نراه يقول على غير العادة :
إنكنت لا ترغب ذمي لما
تعرف من صفحي عن الجاهل
فأحسن سكوتي إذ أنا منصت
فيك لمسموع خنا القائل
فالسامع الذام شريك له
و مطعم المأكول كالأكل
مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل