الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين
وعلى آله وصحبه أجمعين .. إلـى يوم الدين اما بعد :
خرّج الإمام أحمد رحمه الله تعالى من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، فثوب بالصلاة، ثم أقبل إلينا فقال: سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد آنامله في صدري، وتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات والدرجات،
قال: وما الكفارات، قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات.
قال: وما الدرجات ؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام،
فقال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك) اخرجه الترمذي كذلك وقال حسن صحيح ، وسئل عنه البخاري فقال حسن صحيح ، وهو المسند (5/243)
وفي الحديث دلالة على أن الملأ الأعلى وهم الملائكة المقربون يختصمون فيما بينهم ويتراجعون القول في الأعمال التي تقرب بني آدم إلى الله عز وجل.
قوله في الكفارات: ((إسباغ الوضوء في الكريهات ونقل الأقدام إلى الجمعات أو الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات)). وسميت هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات وهذه الأعمال الغالب عليها تكفير السيئات، ويحصل بها أيضا رفع الدرجات.
كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط) رواه مسلم (3/141) الطهارة : باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره ، والترمذي الطهارة (1/67) أبواب الطهارة ، والنسائي (1/89،90) الطهارة
أول الكفارات :الوضوء:
ولذلك ذكر الله عز وجل بعد آية الوضوء:" ليطهركم":
"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" إلى قوله: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم" [المائدة:6].
فقوله تعالى: ليطهركم يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة إنما يحصل بمغفرة الذنوب وتكفيرها، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك [الفتح:2].
وقد وردت الأحاديث الكثيرة الدالة على تكفير الخطايا بالوضوء، فروى مسلم عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة) مسلم (3/113) الطهارة :
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب) مسلم (3/132،133) الطهارة والموطأ (1/32) الطهارة ، والترمذي (1/13) الطهارة
كما وردت النصوص كذلك الدالة على كثرة الثواب على الوضوء بالإضافة إلى تكفير السيئات.
وإسباغ الوضوء على الكريهات: يعني في حالة تكره النفس فيها الوضوء،
وقد فسر بحال نزول المصائب فالنفس تطلب الجزع فالاشتغال بالوضوء من علامة الإيمان، وفسرت الكريهات أيضا بالبرد الشديد، وكذلك عند النوم مع مدافعة النعاس.
وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب إن لم يكن للإنسان فيه صنع كالمرض، أو إذا كان الألم ناشئا عن طاعة،
كقوله تعالى: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين [التوبة:120].
فمن امتلأ قلبه بمحبة الله أحب ما يحبه وإن شق على النفس وتألمت به،
ثاني الكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات والجماعات:
ولا سيما إذا توضأ الرجل في بيته ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) البخاري (2/131) الأذان : ، ومسلم (5/165،166) المساجد : ورواه كذلك النسائي في الإمامة (3/103) والترمذي في الصلاة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((كل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة ))،
وفيهما عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم) رواه البخاري (2/137) الأذان : ، ومسلم (5/167) المساجد
ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه، لكن المشي إلى الدار البعيدة أفضل، وثواب المشي إلى المساجد في الظلم النور التام في ظلم القيامة،
فعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه أبوا داود (557) الصلاة والترمذي (2/23عارضة) الصلاة وابن ماجة (779) وصححه الألباني
فانظر يا عبد الله كم تيّسر لك من أسباب تكفير الخطايا، لعلك تطهر منها قبل موتك، فتلقاه طاهرا، فتصلح لمجاورته في دار السلام، فإن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا.
ثالث الكفارات: الجلوس في المساجد بعد الصلوات
أي انتظار الصلاة الأخرى كما في حديث: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) أي بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل.
ويدخل في قوله والجلوس في المساجد بعد الصلوات الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه نحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما أخر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم قال لهم: إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة) رواه البخاري بلفظ ((ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة )) (2/131) الأذان : ورواه مسلم (5/167)
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال:(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) رواه مسلم (17/21،22) الذكر والدعاء ، وأبو داود (13/229،230) الأدب ، والترمذي في الحدود وفي البر والصلة
وبالجملة فالجلوس في المساجد للطاعات له فضل عظيم،
ولما كانت المساجد بيوت الله وأضافها إلى نفسه تشريفا لها، تعلقت قلوب المحبين لله عز وجل بها لنسبتها إلى محبوبهم، وارتاحت إلى ملازمتها لإظهار ذكره.
قال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36-37].
أول الدرجات: إطعام الطعام.
فإطعام الطعام من أعظم الأسباب الموصلة إلى أعلى درجات الجنة، وقد وصف الله عز وجل الأبرار بقوله: ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً [الإنسان:8].
أي على حبهم للطعام وحاجتهم إليه، وقيل على حبهم لإطعام الطعام طيبة به أنفسهم، وفي المسند وجامع الترمذي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن أطعم الطعام أطاب الكلام وصلى بالليل والناس نيام) رواه أحمد (5/343) والبيهقي في شعب الإيمان وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسن الألباني في صحيح الجامع رقم 2119 ومشكاة المصابيح رقم 1232
فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة ويباعد عن النار وينجي منها كما قال تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة [البلد:11-16].
وأفضل إطعام الطعام الإيثار مع الحاجة كما قال تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر:9].
ثاني الدرجات: لين الكلام
وفي رواية: (إفشاء السلام) وهو داخل في لين الكلام،
وقد قال الله عز وجل: وقولوا للناس حسناً [البقرة:83].
وقال تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن
وقال عز وجل: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت:34-35].
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) جزء من حديث رواه البخاري (5/297) الصلح: ، ومسلم (7/94،95) الزكاة:
وفيه أيضا: (اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) رواه البخاري (10/448) الأدب ، ومسلم (7/101) الزكاة:
أما كون إفشاء السلام من موجبات الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم (1/53) وأبو عوانة (1/30) وأبو داود (5193) وابن ماجة (3692) وأحمد (2/391) وقال الترمذي : حديث صحيح – إرواء الغليل (3/237) رقم 777
هكذا قرن الإحسان بالقول عقب الإحسان بالعمل، وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإطعام والإحسان بالمال.
.ثالث الدرجات: الصلاة بالليل والناس نيام.
والصلاة في الليل من موجبات الدرجات العالية في الجنة،
قال الله عز وجل في وصف المحسنين: كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:18].
وقال عز وجل: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:16].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة القيام بالليل) رواه مسلم (8/55) الصيام وأبو داود في الصوم ، والترمذي في الصلاة والنسائي في قيام الليل
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
وعن بلال وأبي أمامة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد) رواه الترمذي رقم 3543و 3544 ورواه أيضا أحمد والحاكم والبيهقي عن بلال والحاكم والبيهقي عن أبي أمامة وابن عساكر عن أبي الدرداء والطبراني عن سليمان
ونختم بهذه الدعوات التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك)
هذا والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منقووووووووووووووول